ممر داود- إسرائيل تستغل الطائفية لتقسيم سوريا والسيطرة على المنطقة

في خطوة أثارت الجدل والاستياء، دعا حكمت الهجري، وهو شخصية درزية ذات نفوذ في محافظة السويداء السورية، إلى تسهيل حركة العبور عبر الحدود مع الأردن عن طريق فتح معبر دولي، بالإضافة إلى ذلك، طالب بفتح الطرق البرية التي تربط السويداء بمناطق شرق الفرات، والتي تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
المثير للريبة أن هذه الدعوة الصادرة من شخص معروف بعلاقاته وتعاونة المشبوه مع الاحتلال الإسرائيلي، جاءت في أعقاب انسحاب قوات الجيش السوري والأجهزة الأمنية من محافظة السويداء، وذلك بعد تعرضها لقصف جوي إسرائيلي مكثف.
يبدو أن هذه المطالبات تعكس شعورًا بالزهو والانتصار على الدولة السورية، مدفوعًا بدعم إسرائيلي سافر، وتوحي بأن الوقت قد حان لتهيئة الظروف لخروج السويداء عن سلطة دمشق، خاصة مع الحديث المتزايد عن إنشاء معبر سيادي خاص بالمحافظة مع الأردن.
الطائفية وإسرائيل
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الهجري لا يمثل بالضرورة الرأي العام الدرزي في سوريا، حيث توجد شخصيات دينية وقيادات أخرى تحظى بالاحترام، مثل الحناوي وجربوع، الذين يرفضون أي تدخل إسرائيلي في الشأن السوري، بالإضافة إلى الشيخ ليث البلعوس، وهو قائد بارز في تجمع رجال الكرامة، الذي يعارض بشدة توجهات الهجري ويؤكد على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية.
إن خروج الهجري عن الإجماع الدرزي والوطني، والذي بدأ مع بداية الأزمة في سوريا، يتقاطع بشكل واضح مع سياسات إسرائيل، التي سعت بكل ما أوتيت من قوة إلى إضعاف القدرات العسكرية السورية من خلال شن مئات الغارات الجوية، بالإضافة إلى احتلالها لمرتفعات جبل الشيخ وأجزاء أخرى من الأراضي السورية الواقعة خلف خط الهدنة لعام 1974، بعمق يصل إلى حوالي 3 كيلومترات.
لم يكن للهجري أن يجرؤ على الوقوف في وجه الحكومة المركزية في دمشق لولا الدعم السخي الذي تلقاه من إسرائيل، سواء بالمال أو السلاح، أو من خلال التدخل المباشر لسلاح الجو الإسرائيلي لصالحه، مما يؤكد أن إسرائيل هي القوة المحركة الأساسية، وهي التي ترسم له الخطوط العريضة وتحدد سقف تحركاته.
إسرائيل، التي تواجه اتهامات بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، والتي يلاحق رئيس وزرائها من قبل المحكمة الجنائية الدولية، والتي تزهق أرواح ما لا يقل عن 28 طفلًا فلسطينيًا يوميًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى الآن، وفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة، لا يمكن اعتبارها قوة أخلاقية أو إنسانية، ولا يحق لها الادعاء بدعم حقوق أي فئة أو طائفة في بلد آخر.
الواقع يشير بوضوح إلى أن إسرائيل تستخدم الهجري كأداة لتنفيذ مخططاتها السياسية والاستعمارية في سوريا، وعلى رأسها إقامة ما يسمى بـ "ممر داود" في عمق الأراضي السورية، وهو الممر الذي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر محافظة السويداء التي يقطنها الهجري وأتباعه.
ما هو "ممر داود"؟
وفقًا للتصور الصهيوني التوراتي، تسعى إسرائيل جاهدة لإنشاء محور أو ممر جيوسياسي يبدأ من شمال فلسطين المحتلة، مرورًا بالجولان ومحافظتي درعا والسويداء، ثم يمتد في الأراضي السورية الشرقية نحو الشمال، عبر منطقة التنف (الواقعة عند نقطة التقاء الحدود السورية مع الأردن والعراق)، وصولًا إلى شرق الفرات على الحدود التركية العراقية، ثم يتوغل بلسان جغرافي من محافظة الأنبار العراقية إلى كردستان العراق.
هذا المخطط الشيطاني يتماشى مع فكرة إسرائيل الكبرى ودولة بني إسرائيل في عهد النبي داود، وهي دولة وهمية لا يوجد لها أي دليل مادي أو أثري في منطقة بلاد الشام أو العراق، مما يكشف عن الأهداف الاستعمارية الحقيقية لإسرائيل، والتي تتمثل في التوسع والسيطرة من خلال التحكم في الجغرافيا.
إسرائيل تحتل حاليًا أجزاء واسعة من محافظة القنيطرة السورية المتاخمة لفلسطين المحتلة، وتعمل بتواطؤ مع حكمت الهجري على إنشاء كيان موالٍ لها في محافظة السويداء، في الوقت الذي تدعم فيه قوات "قسد" الكردية التي تسيطر فعليًا على منطقة شرق الفرات.
إذا تمكنت إسرائيل، تحت إشرافها وسيطرتها الكاملة، من تحقيق التواصل الجغرافي بين محافظة القنيطرة المحتلة في جنوب غرب سوريا، وبين محافظة السويداء في جنوب شرق سوريا، ومن ثم تمكنت من فتح طريق يربط السويداء جنوبًا بشرق الفرات شمالًا - وهو الأمر الذي طالب به حكمت الهجري في بداية هذا المقال - فإن ذلك سيشكل إنجازًا استراتيجيًا كبيرًا لإسرائيل، وسيكون له تداعيات جيوسياسية وخيمة.
إن التوسع الجغرافي داخل الأراضي السورية، وصولًا إلى منطقة شرق الفرات، سيكون بمثابة مقدمة للوصول إلى كردستان العراق عبر محافظة الأنبار العراقية، وبذلك يكتمل ما يسمى بـ "ممر داود" الاستعماري.
إن نجاح هذا المشروع الاستعماري يعتمد بشكل كبير على قدرة إسرائيل على استغلال الأقليات الطائفية (الدروز) والعرقية (الأكراد)، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل وقوى الاستعمار من خلال إثارة النعرات الطائفية والعرقية، وتجاهل الحس الوطني والانتماء إلى فكرة الأمة، بهدف إبقاء دول المنطقة في حالة من التمزق والنزاع الدائم، مما يجعلها مستنزفة وغير قادرة على حماية نفسها.
التهديد الوجودي
لطالما لعبت الجغرافيا دورًا حاسمًا في تشكيل سلوكيات الأفراد والكيانات السياسية، فالدول المطلة على البحار تتبنى استراتيجيات ونظريات للأمن القومي تختلف عن تلك التي تتبناها الدول الداخلية، وكذلك الدول ذات المساحات الشاسعة تختلف عن الدول الصغيرة من حيث التخطيط والتفكير الاستراتيجي.
إسرائيل، منذ نشأتها وحتى الآن، تعاني من أزمة حقيقية بسبب صغر حجمها وقلة عدد سكانها، بالإضافة إلى محدودية مساحة فلسطين المحتلة، مما يجعلها دائمًا في حالة تأهب قصوى وتتحدث باستمرار عن مواجهة تهديدات وجودية، وذلك لعدة أسباب جوهرية، منها:
1- الشعور الدفين لدى الإسرائيليين بالغربة وعدم الانتماء وانعدام اليقين، فإسرائيل هي نبتة غريبة عن نسيج المنطقة العربية، وعلاقاتها الوثيقة بالغرب وسياساته الاستعمارية تجعلها في حالة قلق دائم وتوتر مستمر.
وهذا يفسر سبب إصرارها الدائم على مدى 77 عامًا من الاحتلال على اعتراف الشعب الفلسطيني بشرعية وجودها كدولة يهودية.
2- محدودية المساحة وفقدان العمق الجغرافي، فرغم قوتها العسكرية الهائلة المدعومة من واشنطن وعموم المنظومة الغربية، فإنها تعيش في حالة خوف متزايدة مع مرور الوقت، خاصة في السنوات الأخيرة، مع التطور الهائل في منظومات الصواريخ والطائرات المسيرة الهجومية التي أصبحت متاحة لمعظم الدول، كما رأينا مع إيران التي قصفت بقوة مواقع إسرائيلية حساسة بصواريخها الفائقة السرعة ردًا على العدوان الإسرائيلي عليها في الشهر الماضي.
3- تصاعد وتيرة المقاومة المناهضة للاحتلال الإسرائيلي من داخل فلسطين وعبر الحدود، كما تفعل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية وحزب الله اللبناني، بالإضافة إلى تخوف إسرائيل من تداعيات ارتفاع مستوى العداء لها من قبل الشعوب العربية بسبب سياساتها وجرائمها المروعة بحق الشعب الفلسطيني، والتي دفعت الشعب اليمني إلى الوقوف إلى جانب غزة في مواجهة الإبادة الجماعية.
في ظل هذه الظروف السياسية الرافضة للاحتلال، تعيد إسرائيل تقييم محددات أمنها القومي، من خلال إدخال عنصر التوسع الجغرافي في المنطقة لمواجهة التحديات الأمنية الوجودية التي تواجهها، مستعينة بأساطير توراتية لتبرير احتلالها لأراضي الدول العربية المجاورة لفلسطين المحتلة وإضفاء صبغة دينية عليها.
الجغرافيا والأمن القومي
يمثل مشروع "ممر داود" بلا شك رأس جسرٍ بري لاختراق منطقة بلاد الشام وصولًا إلى شمال العراق، وذلك في محاولة جادة لاختبار إمكانية توسيع الاحتلال في أراضي الدول العربية، سعيًا لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى المزعومة.
تتجسد الأهداف الرئيسية لمشروع "ممر داود" في عدة نقاط، منها:
- الاستيلاء على أراضٍ عربية وتوسيع مساحة إسرائيل كجزء من مشروع "إسرائيل الكبرى" الوهمي، وإذا لم تنجح الظروف في تحقيق ذلك، فيمكن تحويل الممر إلى منطقة نفوذ وهيمنة إسرائيلية بالتعاون مع "الدروز" في الجنوب و"الأكراد" في الشمال، وبدعم وغطاء أميركي، بحكم تواجد القوات الأميركية في منطقة شرق الفرات.
- زرع بذور الفتنة والتقسيم في سوريا على أسس طائفية وعرقية، من خلال إقامة كيان درزي في جنوب سوريا في منطقة السويداء، وكيان كردي في شرق الفرات، وكيان علوي على الساحل، وبقية المناطق تكون تحت سيطرة السنة العرب، مما يؤدي إلى إضعاف سوريا وتقويض استقرارها على المدى الطويل.
- قطع التواصل الجغرافي بين سوريا والعراق، وإضعاف فرص التعاون والتنسيق بينهما كدولتين عربيتين مهمتين مناهضتين للاحتلال الإسرائيلي.
- تقويض النفوذ الإيراني عن طريق قطع خط الإمداد والتواصل بين طهران وبيروت، وذلك من خلال السيطرة على الحدود الشرقية لسوريا مع العراق، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى إضعاف حزب الله كقوة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
- الاقتراب من الحدود الجنوبية لتركيا وتهديد أمنها الإقليمي كدولة منافسة لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، والحد من نفوذها داخل سوريا بعد نجاح الثورة السورية.
- التدخل السافر في الشؤون الداخلية للعراق من خلال استغلال المكونات الطائفية والعرقية.
- الاستفادة القصوى من مصادر الطاقة والموارد الطبيعية والأراضي الزراعية الخصبة في منطقة شرق الفرات.
ختامًا
إن الاشتباكات المؤسفة التي شهدتها محافظة السويداء بين ميليشيات درزية تابعة لحكمت الهجري وبين العشائر العربية في منتصف شهر يوليو/تموز الجاري، ربما كانت مفتعلة ومدفوعة بتحريض إسرائيلي خبيث، بهدف جر الجيش السوري والأجهزة الأمنية إلى التدخل، مما قد يؤدي إلى تكرار التدخل الإسرائيلي في الشأن السوري بذريعة حماية الدروز، وبالتالي تثبيت واقع نزع سلاح الدولة السورية في المحافظات الجنوبية، وتدمير البنية التحتية لإعاقة جهود البناء والنهوض في سوريا، بعد النجاح الذي حققته الإدارة السورية الجديدة في اختراق الحصار المفروض عليها.
إن هذا النزاع المؤسف بين الدروز من أتباع حكمت الهجري والعشائر العربية، قد كشف عن الدور التخريبي الذي تلعبه إسرائيل في سوريا، واستغلالها للنعرات الطائفية والعرقية، بهدف إضعاف سوريا وإطالة أمد الصراع، وتعزيز التدخل والنفوذ الإسرائيلي في المنطقة.
إسرائيل عازمة على مواصلة الضغط على دمشق لإجبارها على الرضوخ لشروطها المجحفة، وفي مقدمتها الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها والتنازل عن هضبة الجولان وأراضٍ سورية أخرى في الجنوب السوري.
حتى لو تمكنت دمشق من الاعتراف بوجود إسرائيل على أرض فلسطين المحتلة، وهو أمر مستبعد للغاية، فإن ذلك لن يمنع إسرائيل من التخلي عن أطماعها التوسعية في سوريا والأراضي العربية الأخرى، وذلك لقناعتها الراسخة بأن العرب لن يأتوا إليها إلا خاضعين وضعفاء تحت وطأة القوة، مما يزيد من شهيتها الاستعمارية وتطلعها إلى تحقيق المزيد من المكاسب.
في هذا السياق الحساس، فإن فكرة مشروع "ممر داود" تمثل تحديًا استراتيجيًا خطيرًا لسوريا والعراق ولبنان وإيران وتركيا، مما يستدعي النظر إليه بعين فاحصة ومواجهته بكل حزم، والتصدي للعبث الإسرائيلي بأمن المنطقة التي تعيش في حالة من عدم الاستقرار واليقين بسبب رعونة إسرائيل وغطرستها التي تجعلها تتصرف وكأنها فوق القانون.